اكتب ما تود البحت عنه و اضغط Enter

الثلاثاء، 26 أغسطس 2025

دراسة تحليلية شاملة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني

 

أطفال الحجارة

يُعدّ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني أحد أكثر النزاعات تعقيدًا وإثارةً للجدل في التاريخ المعاصر، حيث تتشابك فيه الجذور التاريخية والدينية مع التطورات السياسية والاجتماعية والعسكرية. يسعى هذا التقرير إلى تقديم فهمٍ معمّق وشامل لهذا الصراع، متجاوزًا السرديات التبسيطية التي غالبًا ما تطغى على الخطاب العام. يهدف التحليل إلى تفكيك طبقات النزاع المتعددة من خلال منهجية واقعية ودقيقة، تعتمد على استعراض الأدلة الموثقة من مصادر متنوعة، ومناقشة التناقضات في الروايات المختلفة، للخروج برؤية نقدية وموضوعية.


تكمن أهمية هذا التحليل في أنه لا يكتفي بعرض الوقائع، بل يتوغل في تفسير كيفية تشكّل هذه الوقائع وتأثيراتها المتبادلة. من خلال دراسة الديناميكيات المعقدة لميزان القوى، ودور الدعم الدولي، والأبعاد الأخلاقية والقانونية، يسعى التقرير إلى توضيح لماذا استمر هذا الصراع لعقود، ولماذا تبدو الحلول التقليدية غير فعّالة. ستكون كل فصول هذا العمل مرتبطة ببعضها البعض لتقديم صورة متكاملة ومترابطة، تظهر كيف أن الأحداث الماضية شكّلت الواقع الحالي، وكيف أن الأيديولوجيات الراهنة ترسم ملامح المستقبل.

الفصل 1: الجذور التاريخية للصراع

اليهود في الشرق الأوسط قبل إنشاء إسرائيل

يمتد تاريخ الوجود اليهودي في الشرق الأوسط إلى آلاف السنين، وقد شهدت المنطقة فترات من الازدهار والتعايش السلمي مع الشعوب الأخرى. تُظهر المصادر التاريخية أن اليهود كانوا جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي للمنطقة. ففي عهد الإسكندر الأكبر، ازدهرت يهودا تحت حكم يوناني، وخلال العصر الروماني، شكّل اليهود حوالي 10% من سكان الإمبراطورية الرومانية، و20% في المقاطعات الشرقية.1 ومع الفتوحات الإسلامية، أقام المسلمون سياسة أكثر تسامحًا تجاه اليهود، ما سمح للجالية اليهودية بالاستقرار الدائم في القدس لأول مرة منذ القرن الثاني الميلادي.1

عاش اليهود في مصر والعراق واليمن والمغرب العربي ضمن نسيج وطني واحد مع المسلمين والمسيحيين، وكانت لهم علاقات طبيعية مع المجتمع، فشملوا عمالًا وصناعًا ورجال أعمال، وكان لهم دور بارز في الحياة الاقتصادية والسياسية.2 على سبيل المثال، في مصر، كانت عائلتا سوارس وقطاوي من أشهر العائلات اليهودية التي دعمت طلعت حرب في تأسيس بنك مصر عام 1920.2 وفي العراق، شغل اليهودي ساسون حسقيل منصب أول وزير للمالية في الحكومة العراقية عام 1921، كما كان هناك العديد من الشخصيات اليهودية البارزة في مجالات مختلفة مثل الفن والأدب والاقتصاد.3

غير أن هذا الاندماج الاجتماعي بدأ يهتز مع تصاعد النشاط الصهيوني. تشير بعض المصادر إلى أن الحركة الصهيونية بدأت في تحريض اليهود على الهجرة، وأصبحت تتعامل مع العرب على أنهم العدو اللدود.2 ومع إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، تدهورت أوضاع الطوائف اليهودية بشكل جذري في العديد من الدول العربية مثل العراق وسوريا ولبنان ومصر. عانى اليهود من مضايقات حكومية واعتداءات من قبل العامة، ما دفع بمئات الآلاف منهم إلى الهجرة، وكثير منهم اتجه إلى إسرائيل.1

الفلسطينيون والعرب في فلسطين قبل 1948

شهدت فلسطين في أواخر العهد العثماني وأثناء الانتداب البريطاني تطورات اجتماعية واقتصادية هامة. كان المجتمع الفلسطيني يعتمد بشكل كبير على الزراعة، وكان نظام ملكية الأرض يتميز بأسلوب "المشاع" الذي كانت فيه الأرض تدار بشكل جماعي من قبل مجلس الاختيارية في كل قرية، بحيث يتقاسمها الأفراد في فترات تتراوح من سنة إلى خمس سنوات.5 هذا النظام كان يمثل عائقًا رئيسيًا أمام التملك الصهيوني للأرض.

على الصعيد الحضري، كانت المدن الفلسطينية مثل القدس، ويافا، وحيفا، مراكز حضرية مزدهرة وجزءًا من شبكة تجارية واجتماعية إقليمية واسعة تمتد إلى دمشق وبيروت والقاهرة.6 شهدت المدن الساحلية اندماجًا في الاقتصاد العالمي، وتوسعت نتيجة الهجرة الداخلية من المناطق الريفية.6 كما شهدت القدس توسعًا جغرافيًا مع بناء ضواحي جديدة للطبقة الوسطى العليا الفلسطينية، وشهدت هذه المدن ازدهارًا ثقافيًا وفكريًا تجلى في الصحافة والمؤسسات الاجتماعية والأدبية.6

سياسيًا، كانت القيادة الفلسطينية قبل النكبة تتركز في يد العائلات الكبرى مثل عائلتي الحسيني والنشاشيبي.8 تشكلت هيئات سياسية مثل اللجنة العربية العليا عام 1936، والهيئة العربية العليا عام 1946، وحكومة عموم فلسطين عام 1948، لتجسيد النزوع الكياني للفلسطينيين.9 ومع ذلك، عانت هذه القيادات من انقسامات داخلية وصراعات حزبية أضعفتها، خاصة معارضة بعض العائلات لنفوذ الحاج أمين الحسيني.8 هذا الانقسام كان في تباين واضح مع حركات المقاومة الشعبية التي ظهرت في تلك الفترة، مثل ثورة الشهيد عز الدين القسام، والتي كانت خارج إطار القيادات العشائرية والنخبوية.10 هذا الضعف في القيادة والتوحيد كان عاملاً حاسمًا في مسار الأحداث اللاحقة.9

العوامل الدينية، الاجتماعية والسياسية

كان الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1917 نقطة تحول مفصلية، حيث سهل إنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين.11 لم تكتفِ الإدارة البريطانية بتسهيل الهجرة اليهودية، بل قامت بسن منظومة من القوانين التي كانت بمثابة "ضربة قاصمة للمجتمع والاقتصاد الفلسطيني".5 ألغت هذه القوانين النظام العثماني لملكية الأرض، الذي كان يعيق التملك الصهيوني، وأصدرت قوانين جديدة مثل قانون الأراضي المحلولة لعام 1921 وقانون الغابات، التي سمحت للحكومة بمصادرة الأراضي العربية بحجج واهية ونقل ملكيتها لليهود.5

ساهمت هذه القوانين بشكل مباشر في عملية "الضم الزاحف" وتهجير الفلاحين الفلسطينيين، خاصة بعد أن تمكن الصندوق القومي اليهودي، الذي تأسس في عام 1901 لشراء الأراضي في فلسطين، من شراء مساحات شاسعة من كبار الملاك غير الفلسطينيين المقيمين في بيروت والقاهرة.13 هذه العملية لم تكن مجرد معاملات بيع وشراء، بل كانت استراتيجية ممنهجة لتغيير ديموغرافية فلسطين، وقد أدت إلى تهجير آلاف الفلاحين الذين انضموا لاحقًا إلى الانتفاضات والثورات ضد المستعمرين.14 هذا التهجير بدوره كان له أثر كبير على تأجيج الثورة الفلسطينية الكبرى بين عامي 1936 و1939، التي قمعتها القوات البريطانية بشدة، مما أضعف المجتمع الفلسطيني بشكل أكبر قبيل نكبة 1948.17

الفصل 2: إنشاء إسرائيل والهجرة اليهودية

قرار الأمم المتحدة وتقسيم الأراضي

في نوفمبر 1947، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار التقسيم رقم 181، الذي قضى بتقسيم فلسطين إلى دولتين: دولة عربية ودولة يهودية. وافق على القرار 33 دولة، بينما رفضته 13 دولة، وامتنعت 10 عن التصويت.19 نص القرار على أن تُمنح الدولة العربية 42.3% من الأراضي الفلسطينية، بينما تحصل الدولة اليهودية على 57.7%، مع وضع القدس وبيت لحم تحت إدارة دولية.11

يرى بعض المحللين أن هذا القرار حمل في طياته العديد من التناقضات التي تحمل الشعب الفلسطيني تبعاتها حتى اليوم. فمنذ البداية، لم يتم الوفاء بإنشاء الدولة الفلسطينية كما نص عليه القرار، بل تم تهجير الشعب الفلسطيني وتنصل من حقه في العودة والتعويض. في المقابل، حصل الكيان الصهيوني على "صك قانوني" لقيام دولته على حساب أصحاب الأرض، مما سمح له بالتحرك دون مساءلة.20

الهجرة الجماعية لليهود من الدول العربية

بعد إعلان قيام دولة إسرائيل في 14 مايو 1948، شهدت المنطقة هجرة جماعية لليهود من الدول العربية والإسلامية. تشير التقديرات إلى أن حوالي 260 ألف يهودي من الدول العربية المحيطة انتقلوا إلى إسرائيل خلال السنوات الثلاث التي تلت الحرب.21 كانت أعداد اليهود في العراق ومصر واليمن وغيرها من الدول بمئات الآلاف قبل 1948، ولكنها انخفضت بشكل حاد بعد ذلك. على سبيل المثال، انخفضت نسبة اليهود في العراق من 2.6% من مجموع السكان عام 1947 إلى حوالي 0.1% عام 1951.3

تتضارب الروايات حول أسباب هذه الهجرة. تشير بعض المصادر إلى أن الهجرة كانت نتيجة لعدة عوامل، منها تدهور الأوضاع الأمنية والمضايقات من قبل الحكومات 1، في حين تذكر مصادر أخرى أن الأمر كان "طرداً تعسفياً" من قبل الدول العربية التي خسرت بذلك "نخبة بشرية" من العلماء وأصحاب الأموال.22 من جهة أخرى، تؤكد مصادر أخرى على الدور المحوري للحركة الصهيونية في هذه العملية، حيث استخدمت "كل أساليب التضليل والترغيب والضغط" 23، بل وقامت بإنشاء حركات سرية ونشر دعاية صهيونية وحتى ارتكاب "تفجيرات" لدفع اليهود إلى المغادرة.24

إن الفهم الأكثر دقة لهذه الظاهرة لا يكمن في تبني رواية واحدة، بل في تحليل التفاعل المعقد بينهما. فصعود القومية العربية بعد النكبة، والعداء المتزايد لإسرائيل، خلق بيئة من الخوف وعدم الأمان لليهود في الدول العربية. في الوقت نفسه، استغلت الحركة الصهيونية هذه الظروف، وساهمت في تأجيجها، بهدف إقناع اليهود بأن حياتهم في هذه الدول مستحيلة وأن فلسطين هي "أرض الميعاد" الآمنة الوحيدة.2 كان هذا التفاعل بمثابة "هدية" للدولة العبرية الناشئة التي كانت بحاجة إلى زيادة عدد سكانها.22 عملية "عزرا ونحميا" لإجلاء يهود العراق هي مثال حي على هذا التفاعل، حيث تضافرت عوامل الضغط الداخلي مع جهود الحركة الصهيونية والموساد لتنفيذ واحدة من أهم عمليات التهجير في الشرق الأوسط.24

الفصل 3: الدعم الدولي والسياسة العالمية

الدور الأمريكي، الأوروبي والدولي

يُعد الدعم الدولي، وخاصة من الولايات المتحدة وأوروبا، أحد العوامل الأكثر تأثيرًا في صياغة ميزان القوى في الصراع. قدمت الولايات المتحدة دعمًا هائلاً لإسرائيل على مدار العقود الماضية، حيث بلغ إجمالي الدعم العسكري لها نحو 124.3 مليار دولار.26 وفي الفترة الأخيرة، تلقّت إسرائيل 22 مليار دولار من المساعدات العسكرية الأمريكية في غضون 11 شهرًا، تضمنت صواريخ، وقنابل دقيقة، ومروحيات هجومية، ومركبات مدرعة.27 يتم تقديم هذا الدعم غالبًا عبر مذكرات تفاهم غير ملزمة، مما يمنح مرونة كبيرة في زيادة حجم المساعدات في الظروف الاستثنائية دون الحاجة إلى موافقة مجلس الشيوخ الأمريكي.26

يلعب اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة دورًا "كبيرًا وفاعلًا" في صياغة السياسة الخارجية الأمريكية ودعم إسرائيل، حيث يقوم بجهود كبيرة للتأثير على صناع القرار في الكونغرس وتوفير الأموال للحملات الانتخابية للسياسيين الذين يدعمون إسرائيل.28

من جهتها، يعتمد الموقف الأوروبي على ازدواجية ملحوظة. فالاتحاد الأوروبي ملتزم لفظيًا بحل الدولتين 30، ويدين الاستيطان الإسرائيلي ويعتبره غير قانوني.31 وفي المقابل، يقدّم الاتحاد الأوروبي مساعدات إنسانية ومالية كبيرة للشعب الفلسطيني، حيث يُعد أكبر مانح دولي لهم.30 ومع ذلك، فإن هذه الإدانات اللفظية لا تُترجم إلى ضغط فعلي يؤدي إلى وقف الاستيطان أو تغيير السياسات الإسرائيلية، بل يتم الحفاظ على علاقات استراتيجية عميقة مع إسرائيل في مجالات التجارة والبحث والتكنولوجيا.30

كيف شكّل الدعم الدولي ميزان القوى

يُعدّ الدعم الدولي عاملًا حاسمًا في تشكيل ميزان القوى، حيث يمنح إسرائيل تفوقًا عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا لا مثيل له في المنطقة.32 هذا الدعم يتيح لها أن تعمل كقوة مهيمنة قادرة على "فرض قواعدها على الدول الفرعية".33 إن الدعم الأمريكي غير المشروط، على وجه الخصوص، يحول الصراع من نزاع إقليمي إلى صراع يتدخل فيه فاعل دولي مهيمن بشكل مباشر، مما يمنح إسرائيل "صكًا قانونيًا" للعمل دون مساءلة حقيقية 20، ويسهل عليها التحايل على القانون الدولي.34

إن هذا الاختلال الجذري في ميزان القوى لا يجعل الحلول الدبلوماسية صعبة فحسب، بل يجعلها مستحيلة ما لم تتغير معادلة الدعم الدولية. ففي غياب ضغط دولي فعّال، لا تجد إسرائيل أي دافع حقيقي لتقديم تنازلات أو الالتزام بالاتفاقيات، بل تستمر في سياستها التوسعية، معتمدةً على دعم حلفائها الغربيين.

الفصل 4: التوسع الإسرائيلي واستراتيجية إسرائيل الكبرى

الاستيطان والسيطرة على الأراضي التاريخية

يمثل الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس المحتلة جوهر سياسة التوسع التي تتبعها إسرائيل، وهو محرك أساسي للصراع.36 يتم توسيع المستوطنات عبر عدة آليات، تشمل مصادرة الأراضي الفلسطينية 36، وتحويل بؤر استيطانية غير قانونية إلى مستوطنات شرعية بأثر رجعي، والإعلان عن أراضٍ فلسطينية على أنها "أراضي دولة".38 هذه الإجراءات تستند إلى قوانين إسرائيلية سنت خصيصًا "لتشريع الاستيلاء على الأراضي العربية" بهدف تحقيق "السيطرة الجغرافية والتغيير الجغرافي القسري".39

في عام 1947، قبل النكبة، كانت الأراضي المملوكة لليهود في فلسطين لا تتجاوز 7% من إجمالي مساحتها.40 ولكن بعد حرب 1948، سيطرت إسرائيل على حوالي 78% من فلسطين التاريخية.11 ثم، بعد حرب 1967، احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان.11 ومنذ ذلك الحين، تصاعدت وتيرة الاستيطان بشكل كبير، خاصة في الضفة الغربية والقدس الشرقية، حيث ارتفع عدد المستوطنين بشكل مطرد، ليصل إلى مئات الآلاف.38

تشير البيانات إلى تزايد مستمر في أعداد المستوطنين. ففي عام 1972، كان إجمالي عدد المستوطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان حوالي 10,608 نسمة. هذا العدد ارتفع إلى 106,595 في عام 1983، ووصل إلى 322,500 في عام 1996.41 وحتى أواخر يناير 2022، بلغ عدد المستوطنين في الضفة الغربية حوالي 490,493 نسمة، وفي القدس الشرقية حوالي 220,000 نسمة.41

المنطقةعدد المستوطنين في عام 1972عدد المستوطنين في عام 1983عدد المستوطنين في عام 2022
الضفة الغربية1,18222,800490,493
قطاع غزة7009000 (بعد الانسحاب)
القدس الشرقية8,64976,095220,000
مرتفعات الجولان776,80027,000
المجموع10,608106,595~737,493

مفهوم "إسرائيل الكبرى" وخطط التوسع

يستند مفهوم "إسرائيل الكبرى" إلى أيديولوجيا صهيونية دينية وسياسية، حيث يُعتبر الضم والسيادة على كامل "أرض الميعاد" واجبًا دينيًا وليس خيارًا سياسيًا.42 يتم تطبيق هذا المفهوم عبر تكتيكات تراكمية بطيئة تعرف بـ "الضم الزاحف"، حيث يتم التوسع تدريجيًا في الضفة الغربية عبر القوانين، والطرق، والبؤر الاستيطانية، بدلاً من إعلان ضم شامل.42 هذا التكتيك يهدف إلى تجنب ردود الفعل الدولية القوية، مع تحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل في السيطرة الكاملة على الأراضي.

من الناحية القانونية الدولية، يُعتبر الاستيطان الإسرائيلي "غير قانوني بموجب القانون الدولي".31 وقد أعلنت محكمة العدل الدولية في عام 2004 بوضوح عدم شرعية بناء المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي المحتلة. كما أكدت العديد من الدول والمنظمات، مثل الاتحاد الأوروبي وكندا والمملكة المتحدة، أن المستوطنات تشكل انتهاكًا لاتفاقية جنيف الرابعة.31 ولكن على الرغم من هذه الإدانات، فإن الاستيطان يتسارع بوتيرة غير مسبوقة 37، مما يشير إلى وجود فجوة كبيرة بين المواقف المعلنة والممارسات الفعلية، وهذا يرجع إلى ضعف آليات المحاسبة الدولية.

الفصل 5: الفلسطينيون بين المقاومة والتفاوض

خيارات الفلسطينيين: المقاومة والتفاوض والدبلوماسية

واجه الشعب الفلسطيني مجموعة من الخيارات لمواجهة الاحتلال، تراوحت بين المقاومة المسلحة، والتفاوض، والدبلوماسية.45 تبنّت فصائل مثل حماس والجهاد الإسلامي نهج الكفاح المسلح، معتمدةً على ترسانة من الأسلحة والتكتيكات، بما في ذلك الصواريخ (مثل قسام M-75) والطائرات المسيرة.46 يرى أنصار المقاومة أن هذا النهج هو حق مشروع وفق القانون الدولي 47، وأنه السبيل الوحيد لإثبات أن الاحتلال لن يستطيع أن يفرض سيطرته بالقوة.47

من ناحية أخرى، تبنت حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية نهج التفاوض والدبلوماسية، ساعيةً إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 عبر المفاوضات مع إسرائيل.52 هذا المسار الدبلوماسي واجه العديد من التحديات، أبرزها عدم التزام إسرائيل بالاتفاقيات، وتأخر المجتمع الدولي في تقديم حلول مؤثرة.45

الانقسام الداخلي ودور الفصائل

يُعدّ الانقسام بين حركتي فتح وحماس أحد أهم العوامل الداخلية التي أثرت سلبًا على القضية الفلسطينية. بدأ الانقسام بشكل واضح في عام 2007، بعد سيطرة حماس على قطاع غزة إثر فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2006.53 تختلف الحركتان في رؤاهما الأيديولوجية والسياسية بشكل جذري. فحركة فتح تقبل حل الدولتين، وتتبنى منهج المقاومة السلمية والشعبية، وتدعو إلى إنهاء الاحتلال عبر المفاوضات.52 في المقابل، لا تعترف حركة حماس بإسرائيل وتطالب بتحرير كامل أراضي فلسطين التاريخية، وتتبنى نهج الكفاح الشامل بما فيه المسلح والعسكري.52

إن الانقسام الفلسطيني لم يكن مجرد صراع داخلي على السلطة، بل كان عاملًا حيويًا في استراتيجية إسرائيل للحفاظ على الوضع الراهن. فصل غزة عن الضفة الغربية يمنع قيام دولة فلسطينية موحدة ومستقلة، ويسمح لإسرائيل بالتعامل مع كل منطقة على حدة.54 إضعاف السلطة الفلسطينية وتمكين حركات المقاومة في غزة (بشكل غير مباشر) يخدم هدف إسرائيل في إظهار أن لا شريك لها في السلام، وأنها تتعامل مع "حركات إرهابية".54 هذا التكتيك يجعل الانقسام الفلسطيني أداةً جيوسياسيةً في يد إسرائيل، مما يمنع الفلسطينيين من تحقيق أي تقدم دبلوماسي أو سياسي.

الفصل 6: سيناريوهات النقل والإقامة المؤقتة

نقل الفلسطينيين إلى سيناء

ظهرت في السنوات الأخيرة العديد من المقترحات الإسرائيلية التي تدعو إلى نقل الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء المصرية. من أبرز هذه الخطط كانت خطة الجنرال جيورا آيلاند في عام 2004، والتي اقترحت تخصيص أراضٍ في شمال سيناء لإقامة دولة فلسطينية، مع إنشاء بنية تحتية قوية، مقابل حصول مصر على أراضٍ في صحراء النقب.55 وقد تضمنت "صفقة القرن" التي طرحها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في عام 2018 مقترحات مشابهة لإقامة مشاريع اقتصادية في سيناء لتوفير فرص عمل للفلسطينيين، مقابل تخليهم عن أراضيهم.55

هذه المقترحات قوبلت برفض "قاطع ونهائي" من قبل مصر، التي اعتبرتها "تصفية للقضية الفلسطينية وخطرًا داهماً على الأمن القومي المصري".56 أدى هذا الرفض إلى إفشال هذه المخططات، خاصة بعد تغير الإدارة الأمريكية.

تجارب تاريخية لترحيل السكان

إن فكرة التهجير القسري ليست بجديدة، ولها سوابق في التاريخ الحديث. من أبرز هذه التجارب كان التبادل السكاني بين اليونان وتركيا عام 1923، والذي تم بموجب معاهدة لوزان.58 فرضت هذه الاتفاقية تبادلًا سكانيًا إجباريًا على أساس الدين، حيث تم تهجير المسلمين الناطقين باليونانية من جزيرة كريت إلى الأناضول، واليونانيين المسيحيين من الأناضول إلى اليونان.61

كانت نتائج هذه التجربة مأساوية على الصعيد الإنساني. فقد تم تهجير مئات الآلاف من الأشخاص قسرًا، مما أدى إلى تغيير التركيبة السكانية في المناطق المتأثرة بشكل كامل.58 لم تؤد هذه العملية إلى حل الصراع، بل خلقت أجيالًا من اللاجئين الذين فقدوا هويتهم ووطنهم، واستمروا لعقود يوصفون بـ"اللاجئين".63

إن المقارنة بين مقترحات تهجير سيناء وتجربة التبادل السكاني اليوناني-التركي تظهر أن هذه الحلول القسرية لا تحل الصراعات بل تؤدي إلى خلق كوارث إنسانية على المدى الطويل، وتترك جروحًا اجتماعية عميقة.58 تفشل المقترحات القائمة على التهجير في استيعاب البعد الإنساني، والتاريخي، والأخلاقي للصراع، وتنظر إليه كمسألة "هندسية" يمكن حلها عبر تبادل الأراضي أو بناء المدن، مما يجعلها مستحيلة التنفيذ سياسيًا.

الفصل 7: الصراع المستقبلي في المنطقة

السيناريوهات المستقبلية للصراع

يتشكل مستقبل الصراع في ظل عدة سيناريوهات محتملة. الأول هو سيناريو "العودة للمربع الأول"، أي استمرار الوضع الراهن من عنف متقطع وحصار طويل الأمد.44 السيناريو الثاني هو "الضم الجزئي"، حيث تستولي إسرائيل على أجزاء من غزة والضفة الغربية، وهو ما تشير إليه المخططات الاستيطانية المتزايدة.44 أما السيناريو الثالث والأكثر خطورة، فهو "الضم الكامل" أو التقدم السريع نحو "إسرائيل التوراتية".44 هذا السيناريو قد يشعل حروبًا إقليمية متعددة الجبهات، مع احتمال تورط قوى كبرى.42

دور الدول الإقليمية والمجموعات

تلعب القوى الإقليمية، مثل إيران، ومصر، وتركيا، والمملكة العربية السعودية، دورًا محوريًا في تشكيل مستقبل الصراع.64 فالديناميكيات الإقليمية تغيرت بشكل كبير في السنوات الأخيرة، مع تصاعد نفوذ الفاعلين غير الحكوميين مثل حماس وحزب الله، وتزايد معدلات الإنفاق العسكري.66

أظهرت المواجهة العسكرية الأخيرة بين إسرائيل وإيران تحولًا في معادلة القوة. فبينما تمتلك إسرائيل تفوقًا جويًا وميزانية عسكرية تفوق ضعف ميزانية إيران 68، أظهرت إيران وحلفاؤها قدرات عسكرية غير متماثلة (asymmetrical warfare) تعتمد على الصواريخ والطائرات المسيرة، القادرة على اختراق العمق الإسرائيلي.69 هذا التحول يعني أن الردع الإسرائيلي التقليدي الذي يعتمد على التفوق الجوي والبرّي أصبح أقل فعالية في مواجهة التهديدات غير المتماثلة. الصراعات المستقبلية لن تكون حروبًا تقليدية واسعة النطاق، بل ستكون مواجهات متكررة بين قوى تقليدية (إسرائيل) وقوى غير تقليدية (مثل حماس وحزب الله) المدعومة إقليميًا (إيران). هذا يفسر لماذا رغم التفوق العسكري الإسرائيلي المطلق، لا يزال الصراع مستمراً، ويعكس طبيعة "الصراع المجمد".44

الفصل 8: الدروس المستفادة والتحليل الأخلاقي

الأخلاقيات في الصراع

يُعدّ الجانب الأخلاقي من الصراع معقدًا للغاية. فبينما يرى القانون الدولي أن المستوطنات الإسرائيلية غير قانونية 31، وأن للشعب الفلسطيني الحق في تقرير المصير ومقاومة الاحتلال 50، فإن الواقع يشير إلى أن هذا القانون لا يُطبق بشكل فعّال. يكمن هذا التناقض في "ضبابية القانون" التي تمنح الدول الكبرى مساحة للمناورة، وتخدم الأقوياء على حساب الأضعف.34

على المستوى الخطابي، تُستخدم استراتيجية "تجريد الخصم من إنسانيته" لتبرير الممارسات العنيفة. يُظهر الخطاب الإسرائيلي، كما صرح وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت بوصفه الفلسطينيين بـ"الحيوانات البشرية"، محاولةً لنزع التعاطف معهم وتبرير العنف الواسع النطاق.73 هذه الاستراتيجية تسعى للحصول على دعم ومباركة من الدول الكبرى لارتكاب المجازر، رغم خروجها عن القيم الإنسانية والقانون الدولي.73

الدروس من التاريخ

إن الدرس الأهم المستفاد من تاريخ الصراع هو أن الحلول الأحادية التي تعتمد على القوة محدودة النتائج. فالتفوق العسكري، رغم قدرته على فرض السيطرة على الأرض، لا يمكنه القضاء على المقاومة أو حل النزاع الجذري. وقد أثبتت التجربة أن القوة وحدها لا تكتسب الشرعية.74

كما أن الدعم الدولي يمثل عاملًا حاسمًا في معادلة الصراع، وليس مجرد عامل ثانوي. فغياب الإرادة الدولية لتطبيق القانون بشكل عادل، ووجود دعم غير مشروط لطرف على حساب الآخر، هو ما يغذي استمرار النزاع.

استنتاجات عامة

إن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني لا يمكن فهمه بعمق إلا من خلال تحليل طبقاته المتعددة، التي تشمل الجذور التاريخية، والأبعاد الدينية، والمصالح السياسية، والدعم الدولي. لقد أظهرت التجربة التاريخية أن الحلول المباشرة بالقوة محدودة النتائج، وأنها لا تؤدي إلا إلى إطالة أمد الصراع وتعميق المأساة الإنسانية.

إن أي تغير جذري في مستقبل الصراع يتطلب فهمًا حقيقيًا لتوازن القوى، وتحليلًا استراتيجيًا دقيقًا، ودبلوماسية واقعية. ولكن الأهم من ذلك، هو أن الحل المستدام لن يأتي إلا بدعم دولي فعال، وتنسيق إقليمي، لتطبيق القانون الدولي بشكل عادل، وضمان حق الشعوب في تقرير مصيرها، ووضع حد للضم والتوسع.

تعيش فلسطين حرة أبية والعار على من خذلها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق